دراسة : الأطفال والإدمان الإلكتروني
ليس طرح هذا الموضوع من الجدة في شيء فانا اعلم انه حديث المجتمع بعموم شرائحه متخصصين وغيرهم ، وهو من الأهمية ما يوجب أن يبقى الحديث حوله مفتوحاً لعل مجرد التعرض للموضوع يحسن من الوعي بخطورة هذه الظاهرة التي تزداد تمدداً كماً وكيفاً، والأيام حبلى كما يقال.
إن الحياة المعاصرة بما يكتنفها من تغيرات متسارعة لم تترك لنا فرصة للمراجعة لكثير من تفاصيل حياتنا وحياة اطفالنا الذي نحن مسؤولون عنهم ، فأصبحنا وهم وكأننا ندور داخل دولاب ضخم يتحرك بنا في اتجاه حتمي وخط مرسوم مسبقاً ليس لنا القدرة على تغييره أو حتى تحويله عن اتجاهه ، وهذا الأمر تلمسه في كل مره تفتح النقاش فيها مع الآباء والامهات حول الاطفال والاجهزة لأنها في نظرهم – وهي واقعياً كذلك – اصبحت شر لا بد منه! وكأن الحياة لم يعد فيها بدائل وأن الانسان اصبح داخل هذا الصندوق مقيد بكل تفاصيله وقوانينه.
لست بصدد مناقشة الأعراض المرضية لهذه الاجهزة على الاطفال ، والتي اصبح من السخف انكارها ولا زالت الدراسات الطبية تزودنا كل يوم بمعلومات مخيفة حول اثارها المرضية ، ولست كذلك بصدد الحديث عن المحتوى الاعلامي في هذه الاجهزة لأنه موضوع من الاتساع والتشعب ما يجعل من مثل هذا المقال مكانا غير مناسب له ، لكني سأناقش خطورتها كمتغير تربوي دخل على حياة الطفل المعاصر وأثر فيها بشكل او بآخر.
تتركز خطورة هذه الأجهزة على الاطفال وخصوصاً من هم دون الخامسة في انها تقف حائل بينهم وبين عملية النمو الطبيعية التي تتركز في عمليات اساسية محددة يعرفها كل المتخصصين في علم نفس النمو وتسمى مطالب النمو ، وهي كما يرى هافجهرست (Havighurst)([1]):
إن لمحة سريعة على هذه المطالب نجد ان معظمها نتاج تحرك الطفل في البيئة المحيطة وتكوين العلاقات داخلها وهنا تكمن خطورة اعاقة – واقول اعاقة – حركة الطفل بسبب هذه الاجهزة التي تضطره للبقاء فترة طويلة ثابتاً في مكانة دون حراك يذكر الا من عينين مثبتتين على هذه الاجهزة ، تقول دوروثي كوهين Dorthy Cohen وهي استاذة متخصصة في التربية بعد تجارب عملية على الاطفال المدمنين على المشاهدة : “إن تأثير الأجهزة في الاتجاه الايجابي محدود جداً ، لكن تأثيرها السلبي على نمو الأطفال كان ضخماً لقد سرقت منهم فرصتهم الطبيعية في الكلام ، واللعب ، والعمل واعاقت فرصتهم السوية في النمو”.
إن تأخر الطفل في تحقيق أياً من مطالب النمو السابقة يؤدي بالنتيجة الى تعثر نموه في المراحل التالية وهي قضية خطيرة ونتائجها على شخصية الانسان أكبر مما نتصور، وهذه ليست مبالغات انشائية انما هي حقائق علمية خلصت اليها تجارب العلماء المتخصصين في مجالات علم نفس النمو ، وهذا يستوجب وعياً بهذه القضية وملابساتها.
يمكن لنا ان نطلق على هؤلاء الاطفال مصطلح الاطفال المحرومين)[2]) لأنهم لم يتلقوا ما يجب من رعاية وسوف نندم على تضييع هذه السنوات بسبب تعاملنا اللامبالي مع هذه الاجهزة ، وكأننا نضحي بأطفالنا لمجرد اننا لا نريد ان نتعب من اجلهم في زمن خسرت فيه الطفولة اكثر مما كسبت رغم حجم التطور الي يمكن لنا ان نستفيد منه في مساعدة اطفالنا الصغار على النمو الطبيعي والمتوازن.
لقد افرزت هذه الحالة عائلات ترى أن كل مهمتها تجاه هؤلاء الاطفال التأكد من حاجتهم للطعام والرعاية الصحية فقط وما تبقى من وقت يمكن للطفل ان يقضيه على هذه الاجهزة وكأن هذا الكائن المتطور ليس له أي متطلبات أخرى ، إن هذه العائلات اللامبالية تعتبر هذه الاجهزة بديل جيد لشغل الوقت إضافة الى تخليصهم من ازعاج الاطفال الدائم والطبيعي.
وحتى من يعي خطورة هذه الاجهزة على الاطفال يقف عاجزاً عن السيطرة عليها وتصبح الكلمة الشائعة على أَلْسِنة الآباء والأمهات ماذا نفعل ؟ وهي ليست سؤال وانما اعلان للعجز عن توفير البدائل ، وكأن قدر هؤلاء الاطفال هو ان تمر عليهم هذه السنوات الحساسة والقصيرة دون ان يتمكنوا من تحقيق ذواتهم وتطوير قدراتهم.
استحضرت وان اعد لهذا المقال عنوان كتاب للمؤلفة الامريكية ماري وين ” الأطفال والإدمان التلفزيوني”([3]) وهي فيه تدق ناقوس الخطر حول اثر التلفزيون على الاطفال – الذي في حقيقته لا يشكل عشر خطورة الأجهزة الحديثة – ولتؤكد من خلال كتابها ان لا خيار امام الأسر التي تريد النجاح في التربية لأطفالها الا التخلص تماما من التلفزيون في المراحل الأولى من حياة الطفل.
ربما نكون مغلولي الأيدي([4]) أمام هذه الأجهزة المجردة التي صار اليها المجتمع الحديث إلا انه مازال بإمكانـنـا تـأكـيـد إرادتـنـا فـي مـواجـهـة هذه الأجهزة ، تلك الآلات ذات الحضور الفعلي والملموس في بيوتنا وحياتنا بصفة عامة ، وإن بإمكاننا أن نتعلم السيطرة عليه حتى لا تسيطر علينا.
لعلنا في مقالات لاحقة نتحدث عن الآثار التفصيلية على الطفل بسبب الادمان على هذه الأجهزة ، كما اننا نتطلع في المركز الدولي للاستراتيجيات التربوية والأسرية الى بناء بدائل متنوعة للأسرة من برامج وانشطة وفعاليات يومية وواقعية تساعدها على جعل اطفالها يقبلون على الحياة بعيداً عن هذه الأجهزة وهو من أهم الأهداف التي تأسس من أجلها المركز ويتطلع الى تحقيقها.
الهوامش والإحالات: