دراسة : الأسرة والتحديات الاجتماعية للإنترنت
يعد البناء الاجتماعي أحد الأسس الذي تصب فيه قيم الأمة وسلوكياتها، وهو الذي يعطيها الصورة النهائية لمظهرها العام ولشكلها الحضاري، ولذا نجد أن الأحكام التي تطلق على أي أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات بكونها أمة أو مجتمعاً متحضراً أو متخلفاً تنطلق من رصد دقيق، أو حتى سريع للنمط الاجتماعي الذي تعيشه هذه الأمة، ولشكل العلاقات الاجتماعية التي تربط أفراد هذه المجتمعات بعضها ببعض، وللسلوك الاجتماعي العام فيها، وإذا سلمنا بمقولة علماء الاجتماع الشهيرة التي تقول: “إن الإنسان مدني بطبعه” ،فإننا بذلك نعتقد أن الفطرة الإنسانية هي بطبيعتها ميالة للاجتماع والتقارب مع أبناء جنسها، فإن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن أبناء جنسه، وهذا ما ألمح إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ([1]) .
والأسرة أهم المؤسسات الاجتماعية في المجتمعات كافة التقليدية منها والمعاصرة، وتعد أقدم التشكيلات الاجتماعية – قبل الدولة والمجتمع – بوصفها استجابة لحاجات ضرورية – غريزية – أساسية، وتنشأ بصورة طبيعية اختيارية ليست بصورة إجبارية، فهي بذلك الحجر الأساس واللبنة الأولى التي يستند عليها البناء الاجتماعي. فقد اقتضت حكمة الله تعالى ألا يستقيم للإنسان شأن، ولا تتهيأ له الحياة الآمنة السعيدة، والنهوض بأعباء خلافته سبحانه في الأرض وأداء الأمانة، إلا بالعيش في الإطار الاجتماعي الذي نواته وركيزته نظام الأسرة، وتعرض النظام الاجتماعي في الأسرة للخلل أو التشويه تتأثر بذلك كل النظم الاجتماعية داخل المجتمع ، ويصبح من الصعب إعادة بناء المجتمع وفق هويته لفقده للحاضنة السليمة القادرة على القيام بواجبها اتجاه الثقافة والهوية.
وعلى الرغم من تماسك وضع الأسرة – نسبياً – في المجتمعات العربية والإسلامية إلا أن السنوات الأخيرة أدخلت كثيراً من المتغيرات التي أربكت نظام الأسرة سواء على مستوى العلاقات أو على مستوى الوظائف والأدوار مما فرض نوعاً جديداً من التحديات التي ربما أنها لم تأخذ حقها من التأمل والدراسة.
-1- لقد اتفقت الأمم والشعوب منذ قديم الزمان على اختلاف أديانها وحضاراتها على أهمية الأسرة ككيان اجتماعي رغم اختلافهم في القوانين والأحكام التي تحكم هذا الكيان، لكنهم مجمعون على أن بقاء المجتمع مرهون ببقاء الأسرة وحيويتها وعطائها وهذا يبرز أهمية الأسرة.
وقد نظمت النصوص الشرعية مجتمع الأسرة – وهو اللبنة الأولى في بناء المجتمع – من حيث العلاقة بين الزوجين، وعلاقة الآباء بأولادهم، وربطت ما بين الأقارب، وفصلت الحقوق والواجبات لكل إنسان داخل بناء الأسرة، وتعرضت للواجبات الأدبية والحقوق المادية فنظمت التوارث، ونظمت العلاقة بين الفقير والغني في الأسرة فأوجبت على الغني النفقة على الفقير([2]).
إن من أهم أدوار الأسرة توفير البيئة النفسية والعاطفية المستقرة للأبناء، حيث تسود لغة المودة والرحمة، وهما اللفظان اللذان عبر بهما القرآن عن وصف العلاقة الزوجية في قوله تعالى: âوَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ á ([3]) يقول سيد قطب: “والتعبير القرآني اللطيف يصور هذه العلاقة تصويراً موجباً، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار النفس ,, لتسكنوا إليها ,, … ،، وجعل بينكم مودة ورحمة،،.. ،،إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون،، فيدركون رحمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقاً للآخر. ملبياً لحاجته الفطرية، نفسية وعقلية وجسدية بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جدية تتمثل في جيل جديد”([4]).
وتبرز أهمية الأسرة من خلال عدة نقاط يمكن أن نوجزها فيما يلي:
تعتبر الأسرة أهم مؤسسة اجتماعية أوكلت لها مهمة تربية النشء وتنمية قواه المختلفة من خلال وظائفها المتعددة ، ومن خلال ما يعرف بعملية “التنشئة الاجتماعية” ، والتي تشكل اهم عملية تقوم بها التربية اتجاه النشء ، وتأتي الأسرة في مقدمة المؤسسات الاجتماعية المناط بها هذا الدور، والذي يزداد أهمية مع التغيرات العصر وتحدياته ، ممثلاً في التطور التكنولوجي من الوسائل السمعية البصرية ،وأهمها الأنترنت وما تمثله من خطر يهدد النشء الصغار ،بل حتى الكبار، “فإذا كانت الأسرة تعمل على الاستمرار المادي للمجتمع بإمداده بأعضاء جدد عن طريق التناسل، وبهذا تحفظ كيانه العضوي ، فإنها تتولى ايضاً الاستمرار المعنوي لهذا المجتمع وذلك بتأصيل قيمه ومعايير سلوكه واتجاهاته وعوائده وطرائقه عند أطفال المجتمع، وبهذا تحفظ كيانه” ([5]).
تمثل الأسرة وحدة أساسية من وحدات المجتمع ، وفيها تنعكس اوضاع المجتمع قوة وضعفاً فمنها تبدأ صحة المجتمع وعافيته ،ومنها ينهار ويتلاشى .
تعتبر الأسرة المكان الطبيعي الذي تلبى فيه الحاجات الفطرية والغرائز الضرورية للإنسان سواء منها الغريزة الطبيعية أو الميل للنسل والتكاثر ، وكذلك تحقيق السكن النفسي والعاطفي.
-2- يمكن لنا أن نقرأ في تطور الأسرة الكثير من النظريات التي رأت في هذه المؤسسة الهامة حالة من الانتقال والتحول من الصور البدائية الى الحالة الراهنة ، وان كنا في التربية الإسلامية لا نسلم بهذه الأفكار التي تتناقض مع مضمون الوحي الذي نص على تكون الأسرة الأولى في حياة البشرية في الجنة من خلال خلق آدم عليه السلام وزوجه حواء، قــــــــــــال تعـــــــــــــــــــالى:â وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ([6]) ) مع افتراض ان البشرية عبر مراحلها المختلفة قد ترتكس الى صور من هذه الأشكال البدائية للأسرة مما أحدث تحولاً كبيراً في شكلها ووظائفها ومسئولياتها([7]).
وما يهمنا في هذا المقال هو التحولات التي طرأت على الأسرة نتيجة تغيرات الحياة المعاصرة ، سواءً التغيرات الاقتصادية أو التغيرات السياسية – تشكل الدولة الحديثة – وما صاحب هذه التغيرات من تغير في نواحي كثيرة للأسرة ومن اهمها:
مكونات الأسرة: كانت الأسرة أكثر اتساعاً مما هي عليه الآن فكانت تضم عدة اجيال قد تصل الى ثلاثة أو اربع اجيال تحت سقف واحد فيما يعرف بالأسرة الممتدة بينما هي الآن تقتصر على الزوج والزوجة والأبناء فقط او ما يسمى بالأسرة النووية.
السلطة في الأسرة: كانت الأسرة قديماً تخضع لأكبر افرادها الذي كان غالباً الجد أو الأب، ومن خلال سلطته على افراد الأسرة كان يتحقق النظام والاحترام ، وتتشكل المسئوليات والدوار داخل الأسرة ، أما في المجتمع المعاصر فالسلطة اصبحت تخضع لعوامل اخرى من اهمها العامل الاقتصادي والثقافي- التعليمي- ، ولذلك قد تكون بيد الأب أو احياناً بيد الأم ، وربما تصل الى احد الأبناء.
وظائف الأسرة: تحولت الأسرة من واقع الوظائف الكثيرة والمتعددة التي كانت تقوم بها (اجتماعية، واقتصادية، ودينية ، وتربوية ، وسياسية) الى عدد محدود من الوظائف والمهام التي تقوم بها في العصر الحديث ربما لا تتجاوز الرعاية الجسدية والاقتصادية.
شكل الأسرة: كانت الأسرة محافظة على شكل تقليدي عبر عصور طويلة يتمثل في أبوين( ذكر وأنثى) ومجموعة من الأبناء سواء بشكلها الممتد أو النووي، لكن التحولات في الحياة المعاصرة – وما صاحبها من انحرافات عن الفطرة السليمة- حولت شكل الأسرة الى اشكال جديدة أحادية الأبوية كأم ومجموعة من الأطفال ، أو أب ومجموعة من الأطفال أو ما يعرف بظاهرة الأمهات العازبات.
-3- تبرز التحديات التي تواجه الأسرة في الواقع المعاصر من خلال تأثيرات الحياة المعاصرة بمكوناتها المختلفة ، وخصوصاً التكنولوجية- ونحن نعيش أوْج عصر التكنولوجيا – والتي يقف على قمتها عالم الانترنت بمؤثراته العميقة و المتمكنة من كل حياتنا في جميع جوانبها، لتحدث أعمق الأثر في المستويات المختلفة داخل الأسرة المسلمة ، والتي يمكن أن نبرزها فيما يلي:
التحديات الاجتماعية على مستوى العلاقات:
تتكون الأسرة في بنائها الهيكلي من علاقات قائمة على ترتيب محدد ناتج عن الثقافة الاجتماعية أو الدينية لكل مجتمع ، مما يجعل هذه العلاقات تسير في مسارات محددة ،ومحكومة بقيم وعادات تجعل منها ثابتة نسبياً على الأقل خلال مدى زمني معين، وهذا الهيكل الأسري يتكون من بناء هرمي نازل يبدأ من رأس الأسرة (الأب مثلا) صاحب السلطة ويمر بأفراد الأسرة الموازين له في الهرم كالزوجة وصولاً الى الأبناء. (انظر الشكل:1)
الشكل(1)
رسم توضيحي لشكل العلاقات الافتراضية داخل الأسرة
والعلاقات داخل الأسرة تتمثل في وجود نظام حاكم لهذه الاسرة وان كان غير مكتوب او محرر في شكل مواد قانونية – كما هو الحال في المؤسسات التجارية – الا ان هذا النظام يظهر من خلال العلاقات والتراتبية الناتجة عنها، ولذلك نجد سلطة الأب في المجتمعات التقليدية تشكل أمراً لا يقبل النقاش بين افراد الأسرة والكل يخضع لهذه السلطة بشكل تلقائي ، ومن خلالها يتم تنظيم العلاقات الأسرية سواءً على مستوى التوجيهات والأوامر أو على مستوى تحديد الأدوار والمسئوليات داخل الأسرة.رسم توضيحي لشكل العلاقات الافتراضية داخل الأسرة
واذا نطرنا الى العلاقات داخل الأسرة المعاصرة نجد أنها آخذة في التراجع فقد دخلت تعديلات ملحوظة على سلطة الأب على الزوجة وعلى الأولاد ، فخففت بشكل ملحوظ ، بل اتجهت بعض القوانين الوضعية في كثير من البلاد إلى الكلام عن ” سلطة الوالدين ” لا عن سلطة “الأب” فقط كما تعتبر الزوج ” ممثلا ” لسلطة الوالدين في التعامل مع المجتمع خارج الأسرة!!.
لذلك نجد أن الابناء في الأسرة المعاصرة لم يعد يخضعون لسلطة الأب أو سلطة الوالدين من خلال قوة العلاقات الأسرية ، وإنما هم يخضعون لتلك السلطة بسبب كونهم قصرا ، أي بسبب عجزهم المؤقت عن الاستقلال والاعتماد على أنفسهم ،وتحولت العلاقات من شكلها القانوني – الحقوقي – الى علاقات قائمة على الذاتية والشخصية ومدى قرب الفرد من الآخر ،بما تشكله هذه العلاقات الذاتية من نسبية وتغير بسبب قيمها على التقرير الذاتي والذوق والحكم الشخصي، مما يجعلها متذبذبة ، وضعيفة ، وجزئية (انظر الشكل:2 ).
الشكل(2)
رسم توضيحي لشكل العلاقات المعاصرة داخل الأسرة
وأياً كانت الأسباب التي تقف وراء هذا التغير في شكل العلاقات وهل هي نتاج سيطرة الطابع الفردي على الحياة الاجتماعية ونمو الشخصية الفردية ، أما كانت نتاج تغير القيم الحاكمة للأسرة في الحياة المعاصرة والتي تمددت فيها قيم الأنانية ، والقسوة ، واللامبالاة ،فإنه من المؤكد أن هذه العلاقات اصبحت مهددة داخل الأسرة بالتوتر ، والتأزم ، بل والانهيار في احيان كثيرة.([8])
لقد جاء عصر الانترنت ليكمل طريق التحديث للحياة المعاصرة وليشكل أكبر تحدي للأسرة في علاقاتها نتيجة تكريسه لروح الفردية داخل كيان الأسرة وليصبح لكل فرد من أفراد الأسرة عالمه الافتراضي الذي ليس له أي صلة بعالمه الواقعي الذي يعيشه فهو مع اسرته قالباً لكنه يسبح في فضاء الانترنت قلباً واحساساً وتفاعلاً، وهذا الأمر زاد تفشياً داخل الأسرة بعد ثورة أجهزة الهاتف النقال الذكية التي كورة العالم بين يدي الإنسان وجعلت من وصول الملايين من البشر للإنترنت امرأ اسهل من تنفس الهواء ، ومنها بدأت السيطرة الحقيقية على قلب الإنسان ، وحياته تبعاً لذلك.
لقد تجلت أهم مظاهر التحديات الاجتماعية الانترنت على مستوى العلاقات في مجموعة من المظاهر داخل الأسرة وهي:
ضعف التواصل داخل الأسرة على جميع المستويات بسبب التهام الانترنت لفائض الوقت الذي كان يشكل فضاء طبيعي للتواصل بين افراد الاسرة، وحتى مع احتفاظ بعض الاسر بفكرة التواجد الجماعي في مكان واحد – سواء للأكل او الأحاديث – الا ان الجميع يبحر في عالمه الخاص عبر مركبته الفضائية( الجهاز النقال)،وبالتالي تتقلص العلاقات نتيجة لذلك لتصبح علاقات مؤقته لضرورة وبحدها الأدنى.
أحدث الانترنت نوعاً من التباين بين الأجيال ؛ نتيجة لاختلاف الثقافة التي تكونت عند الاجيال الأصغر بسبب تعرضهم لهذا التنوع الكبير ، والمختلف عن انماط الثقافة السائدة ، وما نتج عنه من شخصيات مختلفة في الفكر ، والشعور بل وحتى المظهر – وهذا احد تجليات العولمة التي اسهمت تكنولوجيا المعلومات فيها – وهذا سبب فقد الاتصال داخل الاسرة لتأثيراته ، مما يجعل العلاقات بين الافراد – خصوصا الكبار والصغار – علاقات غير مثمرة أو غير مفيدة لأنها تفتقد للأرضية المشتركة التي تقف عليها.
فقد الصغار دخل الاسرة فرصة التواصل الدائم مع عالم الكبار بسبب انشغال الكبار بالإنترنت لساعات طويلة ، مما يضعف من حظوظهم في التعلم من خلال التواصل وتكوين العلاقات ، وهي البوابة التي يدخل من خلالها الصغار الى المجتمع والحياة ويتحولون من كائنات بيولوجية الى كائنات اجتماعية.
كثرة المشاكل داخل الاسرة بسبب تقلص وقت التواصل وضعف العلاقات بسبب قضاء ساعات طويلة على الانترنت ، وما ينتج عن هذا من تفكك العلاقات – خصوصاً بين الزوجين – بل وانهيارها احياناً([9]).
تحول العلاقات داخل الاسرة الى علاقات سريعة وعابرة – وكأنها تشبه شكل العصر الذي نعيشه – وفقدت العمق والحميمية التي تشكل اهم معالم العلاقات الأسرية الطبيعية ، وذلك بسبب رغبة افراد الاسرة في انهاء ما هو ضروري والعودة سريعاً الى عالمهم الافتراضي الي يشعرون فيه بذواتهم.
لم تعُد الأسرة في عصر المعلومات و وسائل الاتصال المتعددة هي تلك الأسرة البسيطة التي يتجمع أفرادها حول مائدة الطعام، أو حول التلفزيون المحلي لمشاهدة برامجهم المفضلة. لقد تغيرت هذه الصورة إلى صورة مختلفة تماماً يحيطها العديد من الأجهزة من شاشات التلفزيون في كل ركن من أركان المنزل إلى أجهزة ذكية تملأ أرجاء الغرف وأكف الأبناء.
ورغم أن هذا العصر هو عصر هيمنة الصورة – منذ ظهور التلفزيون والسينما – إلا أن العقد الأول من القرن الجديد شهد نقلات نوعية في طبيعة الاتصالات والأجهزة والتقنية المستخدمة فيها، ولهذا سيطرت على عقول الشباب وقلوبهم، تقول أحدى الباحثات: إن الشباب يفضلون استعمال شاشة الانترنت؛ لأنها تحميهم من نظرة الآخر، وتحررهم من كل الموانع لاكتشاف العالم، وتصبح مؤتمنة على الأسرار، وهي أيضاً تمكنهم من تطوير العلاقات مع الآخرين دون التعرض للأخطار القريبة([10]).
وتؤكد أن جيل الهاتف النقال 12-24 سنة يجد في هذا الجهاز وسيلة للتعبير عن حاجاتهم للصداقات والألفة والحرية والاستقلالية، فنجدهم حاضرين جسدياً في مكان ما ، ولكنهم وفي نفس الوقت يعيشون في فضاء يجهل الحدود والزمان. ويمكّن الإنترنت الشباب من بناء علاقات كثيرة تجهل الحدود انطلاقاً من البيت، ولكنها علاقات مع أشخاص خارج النطاق العائلي، وهذا السلوك يطور حالة من الانفصال السلسة وغير الواعية عن الأسرة([11]).
وهذا الانفصال هو أخطر ما يواجه العلاقات داخل الأسرة، فقد أصبح مألوفاً داخل الأسرة مشاهدة الجميع يجلسون في مكان واحد لكن كل منهم – آباء وأبناء – مشغول في عالمه الخاص من خلال نافذته عليه ،ألا وهو جهاز الهاتف الذكي الذي يمسك به بين يديه، ويجعله منفصلاً تماما عن واقعه الحقيقي، وكأنه يسبح في واقع افتراضي أدخله إليه هذا الجهاز الصغير. وإذا لم تتمكن الأسرة من خلال قيامها بدور جديد في زيادة التواصل، ومد الجسور مع الأبناء فإنها ستفقد أثرها إن لم تفقد مكانتها كبانٍ، ومنشئ للقيم، وحاضن تربوي هام وأساسي لبناء شخصية الطفل داخل المجتمع.
والاعتقاد بأن هذه الأجهزة هي للترفيه والترويح فقط هو اعتقاد خاطئ؛ لأنها في الحقيقة ليست كذلك – وإن كان هذا أحد أدوارها – لكنها ومع حجم مشاهدات عالية لها تصبح هي المتحكم الأساسي والجوهري في معظم المدخلات الثقافية والاجتماعية والعاطفية للأبناء ، وبالتالي هي الباني الحقيقي لشخصياتهم، والمؤثر الرئيسي فيها.
إن الدور الجديد للأسرة – في ظل هذا المعطيات – هو بناء علاقات حيوية وجذابة داخل الأسرة بين الآباء والأمهات والأبناء تمكن من فتح الحوار، وتلمس الاحتياجات، وزيادة فترة الاتصال المباشر من خلال هذه العلاقات بينهم. مما يساعد في تقليص عدد ساعات اتصال الأبناء مع عالمهم الافتراضي، ودمجهم في العديد من الأنشط الجسدية للمساهمة في تقليص هذه الساعات.
-4- التحديات الاجتماعية على مستوى الأدوار:
تعتمد الأسرة للقيام بواجبها الاجتماعي – عملية التنشئة الاجتماعية – على معرفة كل فرد فيها لدوره المناط به داخل هذا الكيان ، وهذه الأدوار هي انعكاس لطبيعة تكوين الأسرة والمحيط الثقافي الذي نشأت فيه ، ولذلك قد تتغير الأدوار داخل الأسرة من مجتمع لآخر لكنها تتفق على وجوب قيام كل فرد بدوره والا اختلت التوازنات الطبيعية للأسرة وتحولت الى منطقة للصراعات والتحيزات بدلاً ن أن تكون مكاناُ للطمأنينة والأمان.
ويعرف الدور في الأسرة بْانه “الجانب الديناميكي لمركز الفرد اْو وضعه اْو مكانته في الأسرة ” ،وبالتالي فهو وضيفة الفرد في الأسرة أو الدور الذي يلعبه الفرد([12])، ويشبْه بعض المتخصصين الدور بأدوار الممثلين التي تكون محددة ويجب أن لا يخرجوا عنها ، فهي تمثل التصرفات والسلوك المتوقع من العضو اخل الأسرة.([13]) ولهذا ينظر للدور على أنه هو الصورة المتوقعة للسلوك المعياري المطلوب من الفرد داخل الأسرة وبذلك يصبح كل سلوك متوقع دوراً، ومنه ينشأ ما يسمى بأنواع الأدوار (أنظر الشكل : 3) .
شكل (3)
انواع الأدوار:
والأسرة المسلمة نظمت فيها الأدوار المتوقعة من خلال التشريعات الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وما تضمنته من حقوق وواجبات حددت المسئوليات داخل الأسرة من نشأتها وهذا يجعل المجتمع المسلم – من المفترض- أكثر استقراراً من خلال استقرار اللبنة الأساسية فيه، ولذلك لن نجد شريعة من الشرائع حثت على الزواج – وهو قرار تأسيس الأسرة – كما حثت علية الشريعة الإسلامية يقول الإمام محمد ابو زهرة :” لم توجد شريعة حثت على الزواج كما حث الإسلام عليه ، ذلك لأن الزواج عماد الأسرة، والأسرة الثابتة القوية عماد المجتمع”([14]) ، ثم لم تترك الأمر عند فكرة انشاء الأسرة بل نظمت كل التفاصيل داخل هذه المؤسسة الهامة من عملية اختيار الزوجة والخطبة والمهر الى احكام النفقة والحضانة والورث ، وحتى شؤون الطلاق – وهو قرار تفكيك هذه المؤسسة – تم تنظيمها بشكل تفصيلي.
دور الأب داخل الأسرة:
يعد الأب (الزوج) هو قايد هذه المؤسسة تكليفاً وأمانةً ،قال تعالى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ([15]) ، قال ابن كثير: الرجل قيم على المرأة ، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ([16])، ولا يعنى هذا تسلط الرجل وبغيه على المرأة بحكم هذه القوامة ، بل ان آخر هذه الآية حذرت الرجل من ذلك في قوله تعالى: ” فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ” وهي تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب ، فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.
ويتمثل دور الأب داخل الأسرة في رعاية شؤونها العامة والخاصة من نفقة ، وتوجيه ، ونصح ، وارشاد مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، … وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،..”([17])، ولهذا يصبح الدور المتوقع من الأب اخل الأسرة تحمل مسؤولية رعايتها وتدبير شؤونها ، وكم هي التبعة كبيرة على من يفرط في القيام بهذا الدور ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ “([18])، فالوالد جعل الله عليه حق النفقة لأولاده، وجعله قائماً على بيته، يأمرهم بما أمر الله وينهاهم عما نهى الله عنه، فمن حقوقهم المادية: أن ينفق عليهم بالمعروف، فإذا امتنع الوالد مع القدرة على الإنفاق فحينئذٍ ظلم وجار([19]) .
إن الواقع المعاصر يظهر لنا حجم تفريط كثير من الآباء بهذا الدور لأسباب كثيرة لعل من اهمها طبيعة الحياة المعاصرة و اللهث وراء الدنيا ومكتسباتها ، اضافة الى انشغال كثي من الآباء بعالمهم الافتراضي من وسائل التواصل الاجتماعي الالكترونية ، وانفصالهم عن واقع اسرهم وعائلاتهم ، وما نتج عنه من ضياع لأفراد الأسرة ، وتدني مستوى التربية داخلها نظراً لغياب روح الأب الموجه الناصح.
دور الأم داخل الأسرة:
لقد جعل الله الحاضنة الطبيعية للطفل قبل ميلاده وبعد مولده ، فهي اول من يتلقاه ويرعاه في اول سنين عمره وحباها سبحانه وتعالى من الخصائص النفسية والجسدية ما يجعلها خير من يقوم بهذا الدور ، يقول الإمام الماوردي رحمه الله واصفاً هذا الدور: “والأمهات أكثر إشفاقاً، وأوفر حبّاً، لما باشرن من الولادة، وعانين من التربية، فإنهنّ أرقّ قلوباً، وألين نفوساً”([20]).
والأم هي الفرد الأكثر أهمية في الأسرة بالنسبة لتربية الطفل ،فهي المدرّسة والمربيّة التي تنشئ الأجيال الصاعدة، فإن صلحت الأمّ صلح المجتمع، كما قال حافظ ابراهيم([21]) :
الأمُ مــدرسـةٌ إذا أعــدَدتـهـــا أعـدَدت شعباً طيبَ الأعــراقِ
الأمُ روض إن تــعـهـدهُ الـحـيـا بــالــــــري أورقَ أيــمــاً إيــــــــــــــــــــــراقِ
الأمُ أســتــاذُ الأســاتـذةِ الألـــى شـغـلت مـآثـرهمْ مـَـدَى الآفـاقِ
وتأخذ الأم النصيب الأكبر في تربية الأولاد، وذلك بسبب أنّ الأب يغيب عن المنزل لساعات طويلة من النهار، فتكون هي الأكثر مقابلة للأطفال، ونلاحظ بأنّ ارتباط الأطفال بأمهم أكبر من ارتباطهم بأبيهم، وذلك لأنّ الأم هي مصدر الحنان، مما يظهر لنا خطورة دور الأم داخل الأسرة ، كبانية للجيل وغارسة للقيم في الناشئة الصغار ، وبها تحفظ الأخلاق وتصان العقول والأرواح ، ولذلك نوه العلماء الى اختيار الأم الصالحة والحاضنة الكريمة.
واذا تأملنا واقع قيام الأم بدورها في الأسرة المسلمة المعاصرة نجد أن هذا الدور اكتنفه كثير من الخلل والتقصير بسبب ضعف اعداد امهات المستقبل وتفشي ظاهرة الخادمات الغير مسلمات ، التي اتكلت عليهن الأمهات في تربية الأطفال وما نتج عن ذلك من خلال كبير وواضح في التربية في المجتمع المسلم، وتأتي تأثيرات وسائل الاتصال الحديث – بما فيها الانترنت – لتزيد الطين بله ، وتجعل الامهات مشغولات عن القيام بدورهم داخل الأسرة ، من خلال انشغالهم بتواصلهم الاجتماعي الالكتروني ، ولساعات طويلة وترك الأطفال امام الأجهزة حتى لا يقطعوا عليها تواصلها مع عالمها الافتراضي !!.
دور الأبناء داخل الأسرة:
الابناء نعمة يمن بها الله سبحانه وتعالى على الأسرة فتكمل بها فرحة ابائهم بهم ، وتتزين بها حياتهم ، قــــــــــــــال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ([22]) ، ولا شك أن الأسرة المسلمة قائمة على الحقوق والواجبات المتبادلة ، ولذلك فإن الابناء داخل الأسرة كما أن لهم حقوق فعليهم واجبات يجب عليهم القيام بها تجاه ابائهم وامهاتهم، واتجاه كيان الأسرة.
ولا شك أن هذا الدور داخل الأسرة المسلمة اليوم تأثر ايما تأثير نتيجة لثورة التكنولوجيا وما احدثته من تغيرات في بنية الأسرة وادوار افرادها ،وفي مقدمتهم الجيل الجديد – الذي فتح عينيه على هذه التكنولوجيا – فأصبح مقصراً في القيام بدوره المناط به داخل الأسرة ، وكثرت الشكوى من تفريط الأبناء وتضييعهم لكثير من الواجبات التي يحتمها عليهم دورهم في الأسرة المسلمة ،،، حتى شاع عقوق الوالدين داخل المجتمع المسلم وهو قمة التفريط في أداء الواجب