دراسة : النظر التجديدي في قضية المرأة
يعد الشيخ محمد الغزالي في طليعة أهل الإصلاح، ورجال التجديد الذين أنجبتهم أمة الإسلام في قرنها الرابع عشر الهجري، جعل منه مدرسة متفردة، وقيمة متجددة تخرج في رحابها صفوة من أهل الفكر والنظر، ورجال الدعوة والإصلاح ممن تسنموا ذرى العلوم والمعارف، وتصدروا الميادين في حياته وبعد مماته، سواء ممن وصلوا حبلهم بحبله وتلقوا عنه التلقي المباشر، أو من رضعوا من لبان أفكاره زلالا صافيا، وفكرا عميقا، ورؤية جامعة، وهمة رافعة دافعة. ولسنا نتنكب عن صراط الحقيقة إذا اعتبرنا الشيخ الغزالي أستاذ الجيل، الذي كسر صورة العالم الأزهري المنزوي وراء الحواشي والشروح والملخصات، والهارب إلى كهف الجزئيات بعيدا عن المقاصد والكليات، المستقيل من هموم أمته، وقضايا حاضره ومستقبله، ممن استدفأ بخلافات السابقين، واستغنى عن نظره بنظر الأولين، وأغلق باب عقله، وألقى عصا التسيار في مدارج النصوص، ومباهج المعاني، ومسالك الأدلة.
كان هذا حال رجال الأزهر وعلمائه إلا ما ندر؛ فجاء الشيخ الغزالي في زمانه نسيجا فريدا، ورجلا استثنائيا خرج من هذا النمط الرتيب، والضرب المسكوك؛ فلم ينزو أو يستكين أو تلين له قناة في الدفاع عن قضايا أمته، والتهمم بهموم مجتمعه، والتفاعل مع مشكلات عصره، ونوازل جيله برؤية تجديدية، ونظرة استشرافية.
ولم يجبن أو يخلد إلى بساط العافية، أو ينجذب إلى إغراءات الحظوة والمحمدة، وأُخذة المناصب والألقاب عند ذوي الجاه والسلطان، بل ناهض الفساد، وقاوم الاستبداد بشتى صوره وتعدد أشكاله السياسية والاقتصادية والفكرية، وأدى ضريبة هذا الموقف من صحته واستقراره. لقد ترك الشيخ الغزالي بصمة لا تمحى، وأثرا لا يزول، بصمة لا ينكرها عقل المنصف، ولا تخطؤها عين الملاحظ المتأمل في تراثه، المستبصر في فكره، المستقرئ لتآليفه الغزيرة التي تربو على الخمسين مصنفا.
تمهيد: الغزالي ومدارس التجديد والإصلاح في القرنين 19 و20م:
تمثلات وترددات وامتدادات
عاش الشيخ الغزالي منذ مولده سنة 1917 في مرحلة عصيبة، وفترة عسيرة، وأيام نحسات من تاريخ أمتنا، شهدت مدا استعماريا، وهجوما عسكريا وأخلاقيا، وإعصارا فكريا زلزل العقول والأخلاق، وراود الأفكار والمسلَّمَات؛ عساها تستسلم أمام سلطانه، وتضعف أمام بريق حضارته، وبهرج مدنيته. وهو ما لقي صدى عند نخب استساغت سمومه، وانتحلت أفكاره، وسلكت مسالكه اتباعا لنحلة الغالب؛ كما نبه لذلك ابن خلدون, حين قال في مقدمته الشهيرة: «أن المغلوب مولع أبدا بالإقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده, والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه. إما لنظره بالكمال, بما وقر عندها من تعظيمه، أو لِما تغالط به مِن أن انقيادها ليس لغُلْب طبيعي, إنما هو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك واتصل لها, حصل اعتقادا, فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به»[1].
وقد أجلب المستعمر بخيله ورجله وثقافته وفنونه وعلومه محتلا الساحات، مستوليا على الكثير من العقول التي أصابتها دهشة هذا الوارد الجديد، مشككا في الموروثات الفكرية والاجتماعية، ناقضا لأصول الأمة الثابتة، وأخلاقها الراسخة، ساعيا في تفسخ المجتمع، وفساد الأخلاق، والتحلل من الضوابط والقيم، وهو ما دعا مصطفى لطفي المنفلوطي (ت1924هـ) أحد شهود ذلك العصر إلى القول: «أصبحت أعتقد أن مفاسد الأخلاق والمدنية الغربية شيئان متلازمان, وتوأمان متلاصقان, لا افتراق لأحدهما عن صاحبه إلا إذا افترقت نشوة الخمر عن مرارتها, فكيف أتمناها لأمة هي أعز علي من نفسي التي بين جنبي»1. وقد صور أحد شعراء تلك الفترة المفاسد المتحصلة، والخلال الوافدة بسبب هذا الغزو:
أ أبناء العصر لا كان عصركم فما نور هذا العصر إلا غَياهب
تُسَمونه عصر الرقي وما ارتقى سوى الشر فيه لا الِخلال الأطَايب
وكان من نتائج هذه الحملة ما أصاب المسلمين من انبهار واندهاش بما وصلت إليه أوربا من تقدم علمي ومعرفي، وإعجاب بنمط سلوكها, وأسلوب حياتها الخليع المستهتر بالقيم والأخلاق. حتى انتقلت عدوى هذا الانبهار والإعجاب إلى خريجي الأزهر وعلمائه, كما هو الحال مع الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي كان ضمن أول بعثة مصرية إلى فرنسا, فشاهد ما شاهد من أسلوب حياة الفرنسيين ونمط سلوكهم, فسجل انبهاره ودهشته في كتابه :”تخليص الإبريز في تلخيص باريز”. ولعل المتصفح لكتاب المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي الذي سبق زمنه زمن الشيخ الغزالي, والذي كان شاهد عصر على أحداث تلك الحقبة، ليظهر له ذلك بيِّنا جليا.
نسوق في هذا المقام نموذجا من تاريخه يصور لنا إعجابه وانبهاره بمعمل الكيمياء وتجاربه, يقول: «ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك, أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة, فصب منها شيئا في كأس, ثم صب عليها شيئا من زجاجة أخرى, فعلا الماء وصعد منه دخان ملون, حتى انقطع وجف ما في الكأس, وصار حجرا أصفر, فقلبه على البرجات حجرا يابسا, أخذناه بأيدينا ونظرناه. ثم فعل ذلك بمياه أخرى, فجمدت حجرا أزرق، وبأخرى فجمد حجرا أحمر ياقوتيا, وأخذ مرة شيئا قليلا جدا من غبار أبيض ووضعه على السندال, وضربه بالمطرقة بلطف, فخرج له صوت هائل, انزعجنا منه، فضحكوا منا… ولهم فيه أمور وتراكيب غريبة تنتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا…»[2].
في هذا الخضم المتلاطم، والليل الحالك انتصب رجال يذودون عن حياض أمتهم، ويذبون عن قيم دينهم، وروح شريعتهم، يدفعون فِرًى افْتُرِيت، وأكاذيب ألصقت برسالة الإسلام حين ادعى المدعون أنه مناقض للعلم، مفارق للتحضر والتمدن، معيق للتقدم والترقي؛ متناسين ما احتوته تعاليمه من دعوة صريحة إلى طلب العلم والتفوق فيه، ومدح حامليه ومتلقيه، وما تقرر فيه من وجوب التعقل والتفكر والتذكر والتدبر، والنظر والاستبصار.
وكيف بحضارة كان لها في ماضي الأمم النصيب الوافر، والحظ الكبير في تقدم الإنسانية، ورقيها وتمدنها، وعلى خطى حضارة الإسلام سارت حضارة الغرب، وعلى منوالها نسجت، ومن رصيدها في التأليف والترجمة والعلوم انطلقت. وهذا ما شهد به عقلاء الغرب والمنصفون من بنيه، يقول الفيلسوف الغربي جوستاف لوبون صاحب كتاب: “حضارة العرب”: «نُثبت الآن أن تأثير العرب على الغرب عظيم أيضا، وأن أوربا مدينة للعرب بحضارتها… ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب في الغرب إلا بتصور حالة أوربا حينما أدخلوا الحضارة إليها. إذا رجعنا إلى القرن التاسع والقرن العاشر من الميلاد حين كانت الحضارة الإسلامية في إسبانيا ساطعة جدا، رأينا أن مراكز الثقافة في الغرب كانت أبراجا يسكنها سِنْيُورَات متوحشون يفخرون بأنهم لا يقرأون، وأن أكثر رجال النصرانية معرفة كانوا من الرهبان المساكين الجاهلين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا كتب الأقدمين النفيسة بخشوع… ودامت همجية أوربا البالغة زمنا طويلا من غير أن تشعر بها، ولم يبد في أوربا بعض الميل إلى العلم إلا في القرن الحادي عشر وفي القرن الثاني عشر من الميلاد، وذلك حين ظهر فيهم أناس رأوا أن يرفعوا أكفان الجهل الثقيل فولوا وجوههم شطر العرب الذين كانوا أئمة وحدهم»[3]. ويقول كذلك: «لم يظهر في أوربا قبل القرن الخامس عشر من الميلاد عالم لم يقتصر على استنساخ كتب العرب. قال مسيو ليبري: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوربا في الآداب عدة قرون»[4]. وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه مبرزة هذا التأثير المعرفي: «قدم العرب بجامعاتهم التي بدأت تزدهر منذ القرن التاسع، والتي جذبت إليها عددا من الغربيين من جانبي جبال البرانس ظل يتزايد حتى صار تيارا فكريا دائما، فقدم العرب بها للغرب نموذجا حيا لإعداد المتعلمين لمهن الحياة العامة وللبحث العلمي…»[5]. ويقول المفكر النمساوي ليوبولد فايس الذي تسمى بمحمد أسد بعد إسلامه: «لسنا نبالغ إذا قلنا إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يدشن في مدن أوربا النصرانية، ولكن في المراكز الإسلامية، في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة… لقد بزغ مع اقتراب الحضارة الإسلامية نور عقلي في سماء الغرب ملأها بحياة جديدة وبتعطش إلى الرقي. ولم يأت التاريخ الأوربي بأكثر من اعتراف عادل بقيمة الحضارة الإسلامية حينما سمى عصر التجديد الذي نتج عن الاحتكاك الحيوي بالثقافة الإسلامية “عصر البعث” فإنه كان في الحقيقة ولادة لأوربا، ولم يكن أقل من ذلك»[6].
وقصدي من هذا التمهيد إدراك الروابط، وحصر الروافد، واستبصار ترددات فكر السابقين للشيخ محمد الغزالي من رجال الإصلاح والتجديد في فكره الإصلاحي ونظره التجديدي، لنحيط بقيمة أثرهم، وشساعة حضورهم النفسي والتربوي والفكري. فقد سبقه بمدة يسيرة ثلة من أهل العلم والفكر، وعصبة من رجال التربية والإصلاح نهضوا بهذه المهمة، وانبروا لجهاد الكلمة، ودفع الحجة بالحجة، وإبطال الدعاوى الكاذبة، وتصحيح المسارات المعوجة، أمثال جمال الدين الأفغاني (1897ت)، ومحمد عبده (ت1905هـ)، ورشيد رضا (ت1935هـ)، ومصطفى صادق الرافعي (ت1937هـ)، وحسن البنا (ت1949هـ)، ومحمد مصطفى المراغي (ت1945هـ)… والذين لا يخفى على كل متفحص لتراثه أثرهم الجلي، ونَفَسهم الساري في أفكاره وتوجهاته واختياراته الفكرية والإصلاحية.
نأتي في هذا المقام على ذكر أبلغهم توجيها، وأكثرهم تأثيرا في فكر الغزالي ومسار حياته:
– الإمام حسن البنا: الذي أقر في غير ما موضع من كتبه ومقالاته بالتلمذة عليه، والاقتباس من أنواره وأفكاره، يقول في هذا الشأن: «كنت وما زلت تلميذًا لحسن البنا؛ أذكر دروسه وأترسم خطاه، وأفيد من تجاربه، وأنا مستبشر بدعائه لي ورضائه عني، ونظرتي إلى ذلك الإمام الشهيد أنه من قمم الفقه الإسلامي، ومن بناة أمتنا الفقيرة إلى الرجال، بل هو بلا ريب مجدد القرن الرابع عشر الهجري، وأشهد بأن له بعد الله الفضل الأول في توجيهي وتثقيفي»[7].
-الشيخان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومدرستهما: حيث نهضا هذان الرجلان بمهمات جسيمة، وأعمال عظيمة بالتصدي للاستعمار الغربي، ورد كيده، وفضح عدوانه، ومقاومة سمومه الفكرية، وتوجهاته الثقافية التي أراد من خلالها سلخ الأمة عن دينها، وإفساد أخلاق بناتها وبنيها، وإلحاقها بركبه خانعة طيعة، منقادة ذليلة، تأتمر بأمره، وتمشي على نهجه.
فانتصب الشيخان لتعبئة الأمة وحفز الهمم، وإيقاظ العزائم، نقتطف نموذجا لذلك من مجلة العروة الوثقى التي كانت لسانهما الناطق، وسيفهما المشرع، والتي كان مدير النشر بها جمال الدين الأفغاني، ورئيس تحريرها محمد عبده[8]، مما جاء فيها: «ألا أيها النائمون تيقظوا، ألا أيها الغافلون تنبهوا، يا أهل الشرف، ويا أرباب المروءة والنخوة، ويا أولي الغيرة الدينية والحمية الإسلامية، ارفعوا رؤوسكم تروا بلاءًً منصبا على أوطانكم، وما أنتم ببعيد منه، ولا بمعزل عنه، إن لم يكن قد أصابكم اليوم فسيصيبكم غدا، تساهلتم في الذود عن حقوقكم المقدسة، ولهوتم عما أضمرت لكم هذه الحكومة من الإهانة والتذليل، وسوم الخسف. وتعللتم بالأوهام… إلا أن وقت التدارك ما فات فالأرواح في الأجساد والعقول في الرؤوس، والهمم في النفوس، وإقدام العدو في زلل، وشؤونه في خلل، فأثبتوا ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، لا ترضوا بالدنية خوفا من المنية، واعلموا أن ثباتا قليلا، وإقداما حقيقا في هذا الوقت يفعل ما لا يفعله الجيش العرمرم»[9].
ولا يحتاج الناظر في تراث الشيخ الغزالي إلى كبيرِ عناء، ووافرِ جهد لإدراك الأثر البالغ للشيخين في فكره وروحه، فقد ملأ كثيرا من صفحات كتبه ثناء عليهما، ومحبة لهما، وتعدادا لمناقبهما وفضلهما، ودفاعا عنهما، من ذلك قوله مصرحا بهذه التلمذة: «أنا أحد تلاميذ “المنار” وشيخها محمد رشيد، وأستاذه الشيخ محمد عبده»[10]. ويقول في شأن الأفغاني معجبا بجهده وجهاده: «إن نفس الرجل تساقطت أنفسا وهو يكافح الذل والجهل والذهول والتفرق، وسائر العلل التي أكلت كياننا… ثم مضى الشيخ العبقري يهدر في كل بلد نزل فيه، ويصرخ بعد قرون من الصمت لم تشهد هذا الصنف من الدعاة الرواد… ولم يكن جمال الدين يخشى إلا الله، وما شغله قط مال أو جاه، ولا عناه إلا تكسير القيود التي أذلت جماهير المسلمين»[11]. وقد أفرد صفحات كثيرة من كتابه “علل وأدوية” لدفع ما ألصق بهما، ونسب إليهما من مزاعم واتهامات[12].
المبحث الأول: معالم النظر التجديدي في قضية المرأة عند الشيخ محمد الغزالي
المعلم الأول: التجديد المفاهيمي
اعتنى الشيخ الغزالي بمبحث التجديد المفاهيمي، ونصب سرادق علمه وفهمه لتأسيس المفاهيم الشرعية، وإعادة تأسيسها وتشكيلها على هديِ فقهٍ تجديدي، ونظر اجتهادي، وفهم مقاصدي، باعتبار أن المفاهيم مفاتيح العلوم، ومفاصل القواعد، وأعمدة النظريات. سنأتي في هذا المقام على تبيان هذا الجهد المبرور الذي استفرغه في نسج وإعادة نسج مفاهيم شرعية انزاحت عن سكتها، وانحرفت عن روحها وحقيقتها، مقتصرين على ما يتصل بقضايا المرأة والأحكام المتصلة بها، لاتساع دائرتها، ورحابة حضورها في فكر الغزالي الإصلاحي.
1- مفهوم القوامة
خاض الشيخ الغزالي جولات وصولات في سبيل تجديد المفاهيم الملتبسة، والتصورات المعتلة، والمصطلحات المشوهة التي زاغت أفهام البعض عن معانيها الأصيلة، ومقاصدها المرعية، وسياقاتها التأسيسية، فراحوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلبسون على الناس دينهم تبديلا وتغييرا.
فنجده عند بحثه عن جذور الظلم الواقع على المرأة يضع اليد على أصل من أصول الزيغ في فهم المصطلحات القرآنية، وتحريف دلالالتها الشرعية، ومن ذلك مفهوم “القوامة” الذي وُظف من طرف هذا الفريق في التمكين للرجل، وشرعنة ظلمه وتسلطه واستبداده بالشأن الأسري. فهل قوامة الرجل على بيته -يتساءل الشيخ الغزالي- تعني منحه حق الاستبداد والقهر؟ بعض الناس يظن ذلك وهو مخطئ فإن هناك داخل البيت المسلم ما يسمى حدود الله، وهي كلمة لاحظتُ في تلاوتي للقرآن الكريم أنها تكررت ست مرات في آيتين اثنتين. والآيتان في دعم البيت المسلم حتى لا يتصدع، وفي تدارك صدوعه حتى لا ينهار[13].
نحتاج –فيما نحتاجه- إلى تشييد ضوابط للفهم المجرد، وأصولا للنظر المسدد، حتى لا نزيغ عن المحجة البيضاء، والشرعة السمحاء؛ من هذه الضوابط فهم المصطلح في كليته وامتداداته داخل بنية النص الشرعي قرآنا وسنة، واستحضار مقاصد التشريع الكلية، والمصالح المرعية، فلا معنى للقوامة إن أريد بها التسلط والاستبداد والظلم والهيمنة، ولا شك أن ظلم الأزواج للأزواج -كما يقول الشيخ رضا- أعرق في الإفساد، وأعجل في الإهلاك من ظلم الأمير للرعية[14].
وكيف يستقيم الأمر والحق -جل ثناؤه وتقدست أسماؤه- حرم الظلم على نفسه وهو الذي )لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ( (الأنبياء: 23)، فكيف بعبد يزعم لنفسه حقا مؤبدا، وسلطة مطلقة يصادر به حق غيره، ويمنح لذاته اختصاصات للتصرف المنزه عن المساءلة والمحاسبة. «فالرجل قيم على بيته يقينا، وهذه القوامة تكليف قبل أن تكون تشريفا، وتضحية قبل أن تكون وجاهة»[15]؛ وليس الأمر على ما يفهمه من سبق بيان حالته وصِفَته.
لهذا الغرض استنبط الشيخ الغزالي بنظره التجديدي وحسه الإصلاحي حدودا ضابطة استقاها من وحي الآيات التي اعتنت بأمر الأسرة، وشرعت قواعدها، وأرست بنيانها، فقال: «ما هي الحدود التي تكررت ست مرات خلال بضعة سطور؟ إنها الضوابط التي تمنع الفوضى والاستخفاف والاستضعاف، ضوابط الفطرة والعقل والوحي التي تقيم الموازين القسط بين الناس، إن البيت ليس وجارا تسكنه الثعالب، أو غابا يضم بين جذوعه الوحوش. لقد وصف الله مكان المرأة من الرجل، ومكان الرجل من المرأة بهذه الجملة الوجيزة: )هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ( (البقرة: 187). إن هذا التمازج بين حياتين يكاد يجعلهما كيانا واحدا»[16].
فآفة مصطلح القوامة فهم مشوه، وتنزيل محرف لمقتضى المفهوم، وروحه، ومقصده التي تجعل منه وسيلة تنظيمية، وحاجة اجتماعية باعتبار الأسرة كيانا مجتمعيا، ونواة تأسيسية في بنيان الأمة يسوده ما يسود البنيان الأكبر، ويحكمه ما يحكمه؛ من قيادة تستشير وتستخير، وتسوس أمر الرعية على أسس العدل والإنصاف، والمشاركة الفاعلة في اتخاذ القرارات، وتحديد الاختيارات… يقول صاحب المنار: «فالحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولا بد لكل اجتماع من رئيس، لأن المجتمعين لا بد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يُرجع إلى رأيه في الخلاف لئلا يعمل كل على ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة»[17].
2- مفهوم الزواج
في ظلال واقع كئيب حشر المرأة في ركن حَرِجٍ مَرِج، وصيرها آلة للاستبضاع والإمتاع بغير استماع راجت تعاريف للزواج تحط من شأن المرأة، وتقصر المقصد منه على قضاء شهوة الفرج، واستفراغ الوسع في تصريف الرغبات الجنسية. وهو ما دفع الشيخ الغزالي إلى استهجان هذا المسلك واستنكاره، وقد هاله هذا الاختزال المعيب، والتقييد السقيم، فقال: «المجتمع الوضيع هو الذي يفهم الزواج على أنه عقد انتفاع بجسد، أو يعرفه بأنه امتلاك بضع بثمن، أو يراه شركة بين رجل تحول إلى ضابط برتبة مشير، لديه امرأة برتبة خفير. أين الود والتراحم والشرف والوفاء»[18].
فقولهم عن عقد الزواج بأنه: “عقد يبيح حل المتعة بالمرأة” وغيره من التعاريف الرديفة؛ فيه إذلال للمرأة، وإهانة لمكانتها، وبخس لقيمتها، وزراية برسالتها، حين اعتبر وجودها الجسدي، وألغى كيانها النفسي والروحي والإنساني، وعليه بأن «التعريف قاصر عن المعنى الكبير للعلاقة بين الزوجين، إنه يتناول الجانب الذي يدخل منه القانون، ولم يتناول الجوانب التي تدخل منها بقية العلوم الإنسانية، والزواج أكبر من أن يكون عقد ارتفاق بجسد مرأة»[19].
فما أبعد هذا الخطاب عن الخطاب القرآني )وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً( (الروم: 21) الذي حلَّى أمر الزواج بحلية السَكَن النفسي والميل العاطفي، وأسبغ على المفهوم صفات المودة والرحمة بما يسمو بالعلاقة الزوجية، ويجعل منها حالة إنسانية، وعاطفة قلبية، وسموا روحانيا، وأخلاقا سَنية.
والحاصل أن من انساقوا وراء هذا التعريف -على ما فيه من قصور واختزال واختلال- لم يحصل لهم إدراك للغايات الرفيعة، والمقاصد الجليلة التي من أجلها شُرع الزواج، ولم يتبينوا أن أمر الزواج أكبر من نزوة عابرة، ورغبة دافقة، ولربما التبست عليهم الوسائل والمقاصد، فلم يدروا أيهما أولى بالتقديم والتفخيم، وأرجح في ميزان الشريعة الغراء. يقول الشيخ الغزالي في هذا المعنى: «إن الزواج وسيلة لا غاية، وسيلة لامتداد النوع الإنساني العالي، وليس مقرا فقط لإشباع النهمة، وتحصيل المتعة»[20].
مطلوب إذن ترتيب الأولويات، ورعاية المقاصد والغايات، وفهم الأحكام الجزئية في إطار الكليات، وعليه يجب أن يعاد الاعتبار لمقاصد الزواج دون اختزال أو تضييق، لارتباط ذلك بالنيات التي هي -في الاعتبار الشرعي- أرواح الأعمال، يقول محمد الغزالي: «إن الأسرة في الإسلام امتداد للحياة والفضيلة معا، امتداد للإيمان والعمران على سواء. ليست الغاية إيجاد أجيال تحسن الأكل والشرب والمتاع، إنما الغاية إيجاد أجيال تحقق رسالة الوجود، ويتعاون الأبوان فيها على تربية ذرية سليمة الفكر والقلب، شريفة السلوك والغاية»[21].
المبحث الثاني: منطلقات النظر التجديدي في قضية المرأة عند الشيخ محمد الغزالي
المنطلق الأول: الاغتراف من معيني القرآن والسنة دون وسائط تشوش الفهم والتنزيل
إن الناظر في تاريخ الفكر الإسلامي ليلحظ تلك الحواجز المانعة، والفروق الشاسعة التي تفصل علوم الإسلام بعضها عن بعض فتحجب الرؤية الصحيحة، والفهم السليم لخطاب الله العظيم، وبيان رسوله الكريم؛ حالة عمقها استغراق أصحاب كل علم في جزئيات العلم المطروق ومسائله في حالته الفردية الجزئية بمعزل عن هويته الجمعية.
وقد صدر الشيخ محمد الغزالي -فيما كتبه- عن فهم راشد، ونظر قاصد يبغي جمع عقل الأمة وقلبها، وربط محصلات العلم لديها بمقتضيات العمل، ووصل الظاهر بالباطن، ودمج حقائق الوحي بدلائل السنة، واستحضار سنن الله الثابتة، وتحقيق الوصل المعرفي بين علوم ومذاهب صدرت عن مورد واحد، ونبتت في منبت واحد، فتفرقت بينها السبل فصارت جزرا معزولة، وعلوما متخالفة، واتجاهات متصارعة.
وقد وقفت على نص من ذخائر مدرسة الشيخين الأفغاني ومحمد عبده، يصف الداء أحسن وصف وأكمله، فيقول: «كانت الملة كجسم عظيم، قوي البنية، صحيح المزاج، فنزل به من العوارض ما أضعف الالتئام بين أجزائه، فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على حدة، وتضمحل هيئة الجسم»[22]. ولا سبيل إلى الشفاء من هذا الداء، والاستطباب منه -بما يمنع انتشاره وتقدمه- إلا بالرجوع إلى المعين الصافي، والمشرب الرباني كتاب الله تعالى، وسنة نبيه r: «فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق، وإيقاد نيران الغيرة ودمع الكلمة، وبيع الأرواح لشرف الأمة… ولا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلى نفحة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذ قاموا لشؤونهم ووضعوا أقدامهم على طريق نجاحهم، وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب أعينهم؛ فلا يعجزهم بعد أن يبلغوا بسيرهم منتهى الكمال الإنساني»[23].
فماذا نرجو من ثبات وخلود وعافية لهذه الملة الحنيفية إذا لم تكن العلوم المتصلة بها، والمذاهب الراجعة إليها خادمة لرسالتها، موفية بأغراضها، محققة لمقاصدها في العاجل والآجل، موصول بعضها ببعض على سبيل التآلف والترابط، ووفق نسق تكاملي، ورؤية جامعة تعيد الاعتبار للتصور المنهاجي النبوي، والسلوك الصحابي الذي اجتمعت فيه خصال الخير، و ومعاني الحق المنزل، وقيم الدين الجامع. يقول الشيخ الغزالي واصفا هذا الانحدار: «قادة المذاهب كانوا يشرحون الكتاب والسنة، ويعدون شروحهم اجتهادا مقنعا لهم ولمن معهم، ولكنهم ما رأوا قط أن الصواب حكر عليهم، ولا عادَوا غيرهم فيما فهموه هم. ثم جاء الأتباع أخيرا فأخذوا أقوال أئمتهم على أنها الأصل الذي يشرح، ونظروا إليها كأنها الدين الذي يتبع. ونشأ عن هذه جفوة بين مقلدي المذاهب المختلفة، كما نشأت جفوة بين كتب الحديث وكتب الفقه»[24].
لقد وضع الشيخ محمد الغزالي أيدينا على المفصل الموصل لحل الإشكال، المفضي إلى التعافي من آفات هذا الداء العضال، الذي ما زالت أمتنا تكتوي بناره وتتجرع مرارته، وتعيش نتائجه من فرقة وتمزق وضياع وبعد عن روح الخطاب القرآني الخالد، وبنية المنهاج النبوي الراشد. وقد أفرد كتابه: “السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث” لتبيان ما أصاب علوم الإسلام ومذاهبه من تفرق وتشتت، وتمزع وانفصال أدى إلى القطيعة بين المختلفين، وتمزيق شمل الأمة، وهدر طاقاتها، وضياع وحدتها، يقول حاصرا أسبابه وبواعثه: «عند التأمل في التركة الثقيلة من الخلافات التي ورثناها نجد أن بعضها أملاه الترف العقلي، وأن بعضا آخر لفظي لا محصل له، وأن منها ما أشعل ناره الاستبداد السياسي، واستبقاه عمدا إلى يومنا هذا… وأن منها ما يصح أن يكون مسرحا لنفر من الخاصة، ويُعد شغل الجماهير به جُرما، وأن منها ما جمده المقلدون المذهبيون لقصور شائن في معرفتهم»[25].
المنطلق الثاني: فهم السنة في ضوء أصول القرآن الثابتة ومقاصده المرعية
خاض الشيخ محمد الغزالي معارك فكرية، ومناظرات حامية حول بعض المرويات الحديثية المنتشرة على الألسن، والتي بُنيت عليها أحكام، وصيغت على أساسها مواقف، ونشأت بمقتضاها عداوات، والتي رآها تناقض روح الإسلام، ومقاصده المرعية، وأصوله الثابتة التي تضمنها كتاب الله العزيز الذي )لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ( (فصلت: 42). يقول في هذا السياق: «القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع، ومن تدبره يعرف الإطار العام للهدايات الإسلامية، كما تؤخذ الأحكام الحاسمة في القضايا التي تعرض لها. وشراح الحديث المحصورون في مروياتهم يقعون في ورطات مستغربة عندما يذهلون عن هذه الأحكام»[26].
وقد جعل هذه القضية من أصول فكره، ومن معالم مدرسته يحامي عنها في المجالس والمؤتمرات، ويدافع عنها في الكتب والمجلات، فلا تجد كتابا من كتبه يخلو من إشارات إلى هذا الموضوع تبيانا لضرر الانحراف عن هذا الأصل، وكشفا لما ألصق بالسنة النبوية من مرويات أساءت للإسلام، وكدرت صفاءه وإشراقه حين قدَّمها البعض على أحكام قطعية جاء بها القرآن.
وحتى لا نمضي بعيدا عن موضوع البحث سنقتصر على ما يتصل بالمرأة وقضاياها فيما يتعلق بهذه المسألة، فقد وجدت مرويات نُسبت لرسول الله r تسيء للمرأة، وتحط من قدرها، وتزري بمكانتها المشرفة، ومنزلتها المكرمة، كانت سببا في انحراف الفهم، وخطل الرأي، وزيغ الحكم في هذه الناحية المهمة، يقول الشيخ الغزالي: «ذلك أن المسلمين انحرفوا عن تعاليم دينهم في معاملة النساء، وشاعت بينهم روايات مظلمة، وأحاديث إما موضوعة أو قريبة من الوضع انتهت بالمرأة المسلمة إلى الجهل الطامس، والغفلة البعيدة عن الدين والدنيا معا»[27].
من هذه المرويات التي ردها الشيخ الغزالي، وبيَّن اختلالها، واعتلال معانيها، وانحرافها عن مقاصد القرآن: الأحاديث المانعة للمرأة من ارتياد المساجد، يقول في ذلك: «وقد أخطأ نفر من أهل العلم فظنوا الجماعة للرجال لا النساء، بل زعم بعضهم أن البيت أفضل للمرأة من المسجد، ونقلوا مرويات تافهة منكورة، مَوَّهُوا بها على الأغرار، وأخفوا ما تواتر على طريق القطع أيام النبي عليه الصلاة والسلام، وفي عهد الخلافة الراشدة من احتشاد النساء في المساجد وانتظام صفوفهن عشرات السنين»[28].
وناقش حديث عائشة: (لو رأى رسول الله ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد)، فقال: «إن هذا القول يعني أن بعض أحكام الإسلام موقوت، يبقى لظروف خاصة، فإذا انتهت تلك الظروف ألغيت، والظروف الجديدة الطارئة لا يعلمها صاحب الرسالة في حياته ولذلك لم يحدث لها تشريعا.. وهذا التفكير باطل كله، فإن الله يعلم ما كان ويكون، وقد أذن للنساء بالصلاة في الجماعات، وأمرهن بالذهاب إلى المسجد محتشمات قانتات خاشعات»[29].
وفي مسألة ذات صلة أفرد مبحثا من كتابه: “قضايا المرأة” وغيره للحديث عن ضرب المرأة، واستنكر هذا النزوع إلى القسوة، والتسلط، ومجانبة الفطرة الإنسانية التواقة إلى الكرامة والحرية، فيقول: «يملكني الغضب والأسى عندما أجد رجال الحديث النبوي ضعفاء الوعي بالقرآن الكريم. يقرؤون على الناس الحديث غير شاعرين بقربه أو بعده عن الآيات القرآنية»[30]. ثم ساق مثالا صارخا لهذا الاضطراب المنهجي في حديث مرفوع ورد فيه: (لا يسأل الرجل: فيم ضرب امرأته) ليعقب بقوله: «وهذا الظاهر باطل، فالمتن المذكور مخالف لنصوص الكتاب، ومخالف لأحاديث أخرى كثيرة، وعدوان الرجل على المرأة كعدوان المرأة على الرجل مرفوض عدلا ونقلا وعدلا، ولا أدري كيف قيل هذا الكلام ونسب إلى رسول الله r»[31].
ومن أغرب ما نقل من هذه المرويات منع المرأة من تعلم الكتابة والخط، وقد ناقش الغزالي بعضها ناقضا فقال: «سألني أحد القراء عن حكم قرأه في مصدر إسلامي مهم، من أن عمر منع النساء من تعلم الخط، وكأنه يرى الأمية أولى بهن. فأجبت ساخرا: ولم تكون الأمية حكرا عليهنٍ وحدهن؟ ينبغي أن تشمل الزوجين الذكر والأنثى تمشيا مع الفهم الأعوج لحديث: نحن أمة أمية. يا صديقي إن الحديث الذي يمنع النساء من تعلم الكتابة مكذوب، وكل خبر يهون من شأن العلم بما في الأرض والسماء لا يوثق به»[32].
وغيرها كثير ممن تعرض لها بالنقد والنقض والتمحيص والتدقيق، بما لا تتسع له هذه الورقات، من مثيل: صوت المرأة عورة[33]، والحجاب والنقاب[34]، وولاية المرأة[35] وغيرها…
المنطلق الثالث: رفض العادات البائدة، ومخاصمة التقاليد الفاسدة
انطلق الشيخ الغزالي في نظره في قضية المرأة من منطلق راسخ، وأصل ثابت، وذلك عندما امتشق سيفه لهدم العادات البائدة، والتقاليد الفاسدة التي شرعنت لظلم المرأة، وهيئت لذلك إطارا اجتماعا، وبيئة حاضنة، وفكرا منغلقا يعادي المرأة، ويصادر حقوقها، ويلحقها بركب القاصرين الذين يجري عليهم حكم الحجر، وتلحقهم أحكام الوصاية، وتسري عليهم مسائل الحريم.
تقاليد وضعها الناس، ولم يضعها رب الناس؛ دحرجت الوضع الثقافي والاجتماعي للمرأة، واستبْقت في معاملتها ظلمات الجاهلية الأولى، وأبت إعمال التعاليم الإسلامية الجديدة فكانت النتائج أن هبط مستوى التربية، ومال ميزان الأمة كلها مع التجهيل المتعمد للمرأة، والانتقاص الشديد لحقوقها[36].
معركة مفتوحة لا بد منها في مدارج التجديد، ومراحل الإصلاح لنقض الذهنيات، وإصلاح ما فسد من الأفكار والعقليات، وتقويم ما اعوج من الفهوم السقيمة، والآراء المعتلة. وهو ما نهض بعبئه الشيخ الغزالي، فأدى الضريبة بأن اتهم بالمروق والزيغ، يقول في ذلك: «لقد أدهشني أن نفرا من المتدينين يتناولونني بأقسى مما يتناولني به الصهاينة والصليبيون»[37]. وما ذلك إلا لأنه نقض بناءً كان في نفوس القوم راسخا، وأفكارا كانت في عقولهم رائجة مستحكمة، وقام منتقدا بجرأة ملفتة هذا الوضع الموروث فقال: «المرأة عندنا ليس لها دور ثقافي ولا سياسي، لا دخل لها في برامج التربية، ولا نظم المجتمع، لا مكان لها في صحون المساجد، ولا ميادين الجهاد، ذكر اسمها عيب، ورؤية وجهها حرام، وصوتها عورة، وظيفتها الأولى والأخيرة إعداد الطعام والفراش»[38].
والأدهى فيما نحن بسبيله أن هذه العادات أُلبست لبوس الدين، وأُلحقت بأحكامه، وتسربت إلى علومه ومصنفاته، وتلقفها العوام، وضعاف العقول، وأهل التقليد فجعلوها دينا من الدين، وحقا يُذاد عليه، ويُنتصر له، ويُكفَّر بسببه.
هذا الوضع البئيس، والخلط الشنيع بين شريعة الإسلام وتقاليد موروثة أشرع باب الافتراء والازدراء من طرف أعداء الإسلام وخصومه في الداخل والخارج، ومكنهم من أدوات سهلة للطعن فيه، والحط من قدره ومنزلته، وتشويه صورته في العالمين، وصد الناس عن بابه. نحتاج معه إلى «مراجعة ذكية لنصوص وردت، وفتاوى توورثت، وعادات سيئة تترك طابعها على أعمال الناس. لا بد من دراسة متأنية لما نشكو منه، ودراسة تفرق بين الوحي وما اندس فيه، وبين ما يجب محوه أو إثباته من أحوال الناس»[39].
وقد جرى الشيخ الغزالي في هذا المضمار الصعب كاشفا هذه العوائد الفاسدة، والتقاليد المنحطة؛ من ذلك -على سبيل المثال لا الحصر- قوله عن عادة كانت ولا تزال في بعض البيئات شاخصة مستحكمة وهي الامتناع عن نطق اسم المرأة: «إن البيئات التي عشنا قديما تواضعت على كتمان أسماء النساء، فلا يجوز أن يذكر اسم الأم ولا اسم الزوجة فذلك عيب لا يقع فيه أهل الإيمان؛ لعل الاسم عورة كما أن الصوت عورة. هل الدين باعث هذا الشعور؟ كلا، ففي أول البعثة الشريفة صاح النبي الكريم كما ذكرنا من قبل مناديا صفية بنت المطلب، وفاطمة بنت محمد يدعوهما إلى معرفة الله والإيمان به وحده. ولم يكن ذكر أسماء النساء عيبا ولا موضع لغط»[40].
خاتمة: خلاصات البحث ونتائجه
يظل الشيخ محمد الغزالي منارة لامعة، ومدرسة جامعة أسست أركانها، ورفعت بنيانها على أصالة قرآنية، وهداية نبوية، ووضوح في الرؤية، وشمول في الطرح، ودقة في النقد والتمحيص، وعمق في العرض والتناول، واعتدال في القصد دون غلو أو تقصير؛ تحقيقا لمعنى الأمة الشاهدة بالحق، القائمة بالقسط، المستهدية للرشد. وقد ناصر الغزالي المرأة وانتصر لحقوقها الضائعة، وكرامتها المهدورة، ومكانتها المنقوصة، ودفع ببطلان مرويات حديثية، واختيارات فقهية، وحكايات تاريخية تحمل إزراء واستهانة بها، وتحقيرا لها، وبخسا لقدراتها، وشيطنة لأفعالها، ومصادرة لحقوقها.